نظرة سايكلوجية خاطفة لملحمة أتراحاسس

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
01/10/2007 06:00 AM
GMT



تتجلى الأهمية الفعلية لملحمة أتراحاسس لا في عراقتها وقدمها حسب بل في كونها قصيدة مغناة تؤدى في مناسبات دينية معينة ، فتكتسب لهذا الاعتبار قدرة تمثل الأيديولوجيا الاجتماعية السائدة وعكس التركيبة النفسية للمجتمع القائم حينذاك مما يوفر مادة ملائمة لفهم منبت تلك الأيديولوجيا وأصولها الاجتماعية . وحيث أن المجتمعات التي قامت في تلك الأزمان لا يتميز بعضها من بعض باختلافات عميقة في مستويات البنى المختلفة فسيكون متاحا إذن أن تعمم الاستنتاجات المستخلصة من دراسة الملحمة العراقية العريقة لتشمل مجتمعات شتى بقاع الأرض . عثر على هذا النشيد منسوخا بألواح ترجع إلى حكم الملك البابلي ( عمي صادوقا ) من سلالة بابل الأولى ( 1646 ـ 1626 ) قبل الميلاد وتبدأ بوصف غير متوقع لحال الآلهة قبل خلق الإنسان .. (حينما كان الآلهة مثل البشر يضطلعون بالعمل ويقاسون الكد والعناء ، أجل كان عبء الآلهة جسيما ..) وتنتقل الملحمة إلى وصف تطور تقسيم العمل إذ يتحول بعض الآلهة إلى مستوى التأثير الكلي والقرار في حين يستمر معظمهم في تأدية المهام الأرضية الشاقة مما يدفعهم للتململ ثم الثورة ـ ويبدو أن هذه الثورة سبقت ثورة سبارتكوس الشهيرة بزمن طويل ـ فيرد في متن الملحمة ( لنعلن الحرب ونشرع بالقتال ، لقد استمعت الآلهة لكلماته ، أشعلوا النار في أدواتهم ، أضرموا النار في مرارهم و ومساحيهم وسلطوا اللهب على أدواتهم وسلالهم ورفعوها كالمشاعل وهم يسيرون واتجهوا إلى باب معبد الإله البطل إنليل ) .

وبعد محاورات بين الآلهة العظام يتقرر خلق قربان هو الإنسان حيث ترسم صورة مأساوية لنهاية أحد الآلهة الأرضيين وهو ( وي ـ إيللا ) الذي تم ذبحه عقابا له على إثارته وقيادته ثورة الآلهة العاملين على الأرض ليمزج دمه ولحمه بالطين وتتولى مجموعة من الآلهة العظام خلق الكائن الجديد ..الإنسان .. ال>ي سيزعجهم بضوضائه فيتقرر تدميره وإفناءه بالطوفان ، ذات الحدث الذي يرد في ملحمة جلجامش .

إن الملحمة بوصفها نوعا أدبيا قديما كان لا بد أن تختص بمرحلة تطورية من تاريخ البشرية تلت فترة طفولة الوعي البشري وزمنها الطويل الممتلئ بأحداث كثيرة ومبهمة .وقد انحسرت الملاحم في عصور النضج الاجتماعي وذلك لانتفاء الشروط التاريخية اللازمة لازدهارها ، وظل الأمر الذي تحاول الملاحم تناوله هو طبية الأحداث المبهمة تلك والمترسبة في الذاكرة الجماعية لا بأسلوب التدقيق في شأن الحقيقة إنما بطرح مفاهيم وصور تصالحية تعالج الوضع السايكلوجي الاجتماعي الناشئ تحت ضغط جسامة الأحداث وعنف تأثيرها الوجودي . ويمكن النص على أن الوعي الطفولي للبشرية ارتبط جدليا بالصراعات التي اكتنفت التجمعات العائلية المتناثرة والمكونة لمجتمع يتماسك في مواجهته للأخطار الفعلية الناشئة عن شروط البدائية في حين تنتابه تنافرات متزايدة دوما تحكم أفراده .وقد ترسخت في هذا الوعي انطباعات عن أشكال ومضامين العنف السائد والمتحكم في المجتمع العائلي المؤلف للمتن الاجتماعي ، وتب>ل الملحمة ولأسباب سايكلوجية اجتماعية أن تقيم لتلك الانطباعات صورا وتمثيلات تقترب من تلك التي يفتعلها الشخص العصابي .

إن الأحداث الهائلة التي كانت تعصف بالتجمعات العائلية مثلت في الوعي الجماعي رضات نفسية ( traumatisms ) طبقا لمفاهيم مدرسة التحليل النفسي ، يقول فرويد ( إن منشأ ضروب العصاب يرتد دوما وأبدا إلى انطباعات طفولية مبكرة جدا وأن النتائج في بعض الحالات تنجم بالبداهة عن انطباع أو عدة انطباعات قوية يعانيها المرء في طفولته ) وبعد فترة كمون لتلك الرضات ( إذ تغيب في أعما لا وعي المجتمع ولا تستطيع الذاكرة استحضارها ويطلق على هذه الفترة بالأمه الطفولي ) بعد ذلك ونتيجة لتحفيزات معينة تبدأ الرضات بالتأثير الفعال في صيغ التصرف والتفكير وتنشأ من ذلك الحالة العصابية المعبر عنها بفعل متميز مختلف ، والمستحضرة بطرق تنفيذية مموهة أو مرمزة لا تخلو من الارتباط الجوهري بأصل الرضة .

تبعا لهذا التقديم الضروري نطيل الوقوف عند ملحمة أتراحاسس فنضع مفاجأة الطرح الأول حيث تقسيم العمل بين الآلهة ( فاقترعوا واقتسموا فيما بينهم السلطات ، فأخذ أنو السماء وارتقى إليها وظلت الأرض إلى أتباعه ) ضمن سياقه المنطقي الحقيقي ليكون أصل الرمز هو تطور واقعي لمجتمع العائلة الذي نخمن أنه كان منقسما طبقيا بين الآباء الذين يمثلون الفئة القوية المستأثرة بنتائج أعمال الصيد والزراعة والمستحوذة على النساء وبين الأبناء الكبار الذين ينجزون كل الفعاليات الحياتية الاقتصادية في يحرمون من الامتيازات التي يحظى بها الآباء . إن هذا التناقض جر إلى صراعات دموية يقتل فيها الأبناء وفي أحيان أخرى يذبح فيها الآباء الذين وجدوا أنفسهم في زمن لا حق ضعافا أمام وحدة من نوع ما جمعت أولئك الأبناء المنبوذين والمضطهدين ، وبالإمكان الاستدلال على قيام صراع وثورة من هذا الطراز بما يرد في الملحمة عن ثورة الآلهة الأرضيين الذين يرمزون إلى الأبناء العاملين .

إن هذا التركيب الاجتماعي المعبر عن شكل استعبادي عائلي تعرض إلى ضغط نضوب الموارد وبروز الحاجة إلى التوسع في مجالات الزراعة والصيد مما أدى إلى اصطدام محتم بين التجمعات العائلية المختلفة فانسحق بعضها تماما من جراء شراسة الحروب التي دارت وتحول معظم رجالها الأحياء إلى عبيد في حين تغير وضع النساء إلى محظيات وإماء استأثر بهن عدد أكبر من آباء وأبناء العائلات المنتصرة ، وعند هذا التصور يمكن إبراز معنى خلق الإنسان في ملحمة أتراحاسس ، فالرمز هنا يشير إلى انتهاء أو تخفيف الصراع بين الآلهة العظام والأخرى الأرضية من خلال الاتفاق على خلق الكائن الجديد والذي صنع من خلط دم ولحم أحد الثائرين بالطين وهذا المخلوق هو الذي سيرفع عن الجميع ثقل المهام التي أثقلت كاهلهم ، ويمكن ببساطة فهم هذا العنصر الرمزي بولادة طبقة الأرقاء والعبيد من خارج العائلة من خلال إراقة الدماء بحروب عنيفة لن تنتهي .

وهكذا فإن ذكريات الصراع الدامي القديم والأزمة الحاصلة بسبب تعايش قيمة التقديس للأب القوي الحامي مع الرغبة بزواله وقتله كانت تختفي في هذه الملحمة وراء صراع الآلهة بطبقاتهم المتفاوتة المتعددة .

وما بقي فهو نشوء التناقضات في المجتمع الطبقي الأول وقصة الطوفان .. ولهذا شأن آخر .